القدس المحتلة - مدونة نيوز فلسطين
بين السادس من يونيو/حزيران 1967 تاريخ وقوع الشطر الشرقي لمدينة القدس
المباركة في قبضة الاحتلال الصهيوني واليوم، ثلاثة وأربعون عاماً وبضعة
أسابيع، لم يتراجع خلالها المجرمون “الإسرائيليون” عن غيهم وسعيهم
المحموم والحثيث لتغيير معالم المدينة المقدسة والعبث بتراثها الحضاري
سعياً لتهويدها بالكامل وإلغاء هويتها العربية، في تحد واستفزاز سافرين
ومهينين لمشاعر أبنائها من الديانتين الإسلامية والمسيحية، وتجاهل وتحدٍ
متعمدين للعالمين العربي والإسلامي . وقد ظل هذا الأمر موضع استنكار دولي
دائم وصارخ عكسه مسلسل طويل الحلقات من القرارات الدولية المتلاحقة التي
صدرت عن منظمة الأمم المتحدة وفيض لم ينقطع من بيانات الشجب والإدانة
التي أطلقها قادة عالميون، إضافة إلى الرفض العربي والإسلامي وبالأخص
الفلسطيني الذي ما برح يعبر عن نفسه بشتى الصور والأساليب والوسائل التي
يجيزها القانون الدولي، بما في ذلك ممارسة المقاومة المسلحة والقيام
بالانتفاضات الشعبية التي تلاحقت في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام
1987 وحتى يومنا هذا . لكن ما كان يدعو للأسف والأسى دائماً هو أن
الاستنكار الدولي والرفض العربي والإسلامي ظلا يراوحان نطاق التداول
اللفظي ولم يتجاوزاه مرة واحدة ليصلا إلى مستوى التطبيق العملي .
ما يدعو للحزن والأسى أن المسجد الأقصى المبارك الذي يُعتبر أولى
القبلتين وثالث الحرمين بالنسبة للمسلمين في العالم، بقي من أولويات
أهداف التغيير عند “إسرائيل” بشكل دائم ومستمر، بزعم وجود جبل الهيكل
اليهودي تحت أرضه على مسمع وبصر العالم أجمع بما في ذلك النظام الرسمي
العربي . وقد اتخذت عمليات تغييره أشكالاً مختلفة منها العبث بمحيطه
وباطن أرضه والتحدي السافر لرواده وعمليات الاقتحام المتتالية له، التي
قام بها “الإسرائيليون” وما زالوا يقومون بها بشكل أحمق ومجنون حتى
اللحظة الراهنة . فمنذ وقوع القدس الشريف في قبضة الاحتلال “الإسرائيلي”
في اليوم الثاني لعدوان يونيو/حزيران ،1967 دأب “الإسرائيليون” على
اقتحام ساحة المسجد من حين لآخر وتدنيسها من خلال إقامة حفلات الغناء
والرقص والمجون والخلاعة بداخلها ومنع الفلسطينيين المسلمين من الوصول
إليها والصلاة فيها . لكن اقتحام الإرهابي الصهيوني الأرعن آرئيل شارون
مع نفر من أعوانه الأشرار في 28 سبتمبر/أيلول 2000 ساحة المسجد بتسهيلٍ
وحمايةٍ من حكومة حزب العمل التي كان يرأسها آنذاك الإرهابي الصهيوني
الآخر أيهود باراك، كان الأسوأ من نوعه والأكثر استفزازاً وتحدٍ لمشاعر
العرب والمسلمين بمن فيهم الفلسطينيون طبعاً . وقد شكل ذلك الاقتحام
الهمجي لساحة المسجد الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة الشعبية الثانية
التي حملت اسم المسجد المبارك .
بدأت “إسرائيل” حملاتها التغييرية والتهويدية المسعورة للمسجد الأقصى مع
احتلال الشطر الشرقي للمدينة المقدسة إثر عدوان 5 يونيو/حزيران ،1967
واستمرت في ظل “اتفاقية أوسلو” اللعينة وما أعقبها من مفاوضات وتفاهمات
عقيمة بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين” تارة برعاية رباعية منحازة وطوراً
برعاية أمريكية أكثر انحيازاً، وتصاعدت وتيرتها في ظل حرب الإبادة
الجماعية المستمرة التي دأب جنودها على شنها ضد الفلسطينيين الآمنين
بطريقة عدوانية متواصلة . وحصلت تلك الحملات قبل البدء ببناء جدار الفصل
العنصري، واستمرت في ذروة بنائه وبعد الانتهاء منه، ولا يبدو أن لها
نهاية أو مستقراً طالما أن المطامع “الإسرائيلية” التوسعية قائمة ومستمرة
في ظل انحياز أمريكي وتواطؤ أوروبي وخضوع رسمي عربي كامل ومهين للإملاءات
الأمريكية “الإسرائيلية” المشتركة .
وقد اكتست هذه الحملات العدوانية وجوهاً وأقنعة عديدة ومتنوعة، وتم
التعبير عنها بوسائل وسبل شريرة وشيطانية مختلفة، ومن خلال العديد من
الحلقات والمحطات التي تركت آثارها المؤلمة والموجعة على العرب
والمسلمين، وبالخصوص على الفلسطينيين وبأخص الخصوص على المقدسيين، بحيث
يصعب معها التكهن باحتمال محوها من ذاكرتهم في المستقبل . ولربما أن
أبرزها تمثل بمحاولة الإجهاز على المسجد الأقصى المبارك عن طريق الحرق في
21 أغسطس/آب 1969 والتي تصادف هذه الأيام ذكراها الحادية والأربعين . تلك
المحاولة التي وقف وراءها المتطرفون “الإسرائيليون” الذين ما أبطنوا ولا
أظهروا غير الحقد والكراهية للعرب والمسلمين، جرت بإيعاز وتشجيع من
الدوائر السياسية والأمنية “الإسرائيلية” الرسمية . ففي تلك المحاولة
الإجرامية، أحرق المتطرفون “الإسرائيليون” المسجد بطريقة لا يمكن لسلطات
الاحتلال أن تكون بمنأى أو معزل عنها . فقد قامت هذه السلطات بقطع المياه
عن منطقة الحرم فور ظهور الحريق، وحاولت منع المقدسيين وسيارات الإطفاء
التي هرعت من البلديات العربية من الوصول إلى المنطقة والقيام بعملية
الإطفاء . وكاد الحريق أن يلتهم قبة المسجد المبارك لولا استماتة هؤلاء
الأبرار في عملية الإطفاء، إذ اندفعوا اندفاعة الأبطال عبر النطاق الذي
ضربته قوات الاحتلال “الإسرائيلية” حتى تمكنوا من إكمال مهمتهم، لكن بعد
أن أتى على منبر المسجد وسقوف ثلاثة من أروقته وجزءٍ كبير من سطحه
الجنوبي . وفي محاولة دنيئة ووقحة للتعمية على جريمتها، ادعت “إسرائيل”
يومها أن “تماساً كهربائياً تسبب في الحريق”، إلا أن تقارير المهندسين
الفلسطينيين دحضت ذلك الادعاء، وأكدت أنه تم بفعل أيد مجرمة أقدمت على
تلك الفعلة الشنيعة عن سابق إصرار وتصميم وترصد، الأمر الذي أجبر قادة
العدو على التراجع عن ادعائهم وتحويل الشبهة إلى شاب أسترالي يدعى دينيس
مايكل وليام موهان . واعتقلت “إسرائيل” ذلك الشاب، وكان يهودياً
أسترالياً، وتظاهرت بأنها ستقدمه للمحاكمة في عملية احتيال التفافية
لامتصاص غضبة الفلسطينيين وإدانة العرب والمسلمين والالتفاف على المنظمة
الدولية، إلا أنها بدل أن تفعل ذلك أطلقت سراحه متذرعة بأنه كان
“معتوهاً” . وهكذا قيدت “إسرائيل” جريمتها الإرهابية النكراء تلك ضد
معتوه، كعادتها بعد كل جريمة إرهابية يرتكبها جنودها ومواطنوها بحق
الفلسطينيين وأملاكهم وأوقافهم الإسلامية والمسيحية .
ارتكاب “إسرائيل” جريمة حرق المسجد الأقصى والتعامل معها بطريقة
استفزازية ومهينة للعرب والمسلمين أثارا في حينه هياجاً كبيراً في
الأوساط العربية والإسلامية وخاصة الفلسطينية طبعاً لما يمثله المسجد
كمكان ديني مقدس وواحد من أبرز معالم الحضارة الإنسانية، الأمر الذي فرض
على مجلس الأمن الدولي إصدار قراره الشهير الذي حمل الرقم 271 . في ذلك
القرار دان المجلس “إسرائيل” لتدنيسها المسجد، ودعاها إلى إلغاء جميع
التدابير التي من شأنها المساس بوضعية المدينة المقدسة . وعبر القرار عن
حزن المجلس للضرر الفادح الذي ألحقه الحريق بالمسجد في ظل الاحتلال
العسكري “الإسرائيلي” الغاشم . وبعد أن استذكر القرار جميع القرارات
الدولية السابقة التي أكدت بطلان إجراءات “إسرائيل” التي استهدفت التغيير
في القدس المحتلة، دعاها من جديد إلى التقيد بنصوص اتفاقيات جنيف
والقانون الدولي الذي ينظم الاحتلال العسكري . كما دعاها إلى الامتناع عن
إعاقة عمل المجلس الإسلامي في المدينة، المعني بصيانة وإصلاح وترميم
الأماكن المقدسة الإسلامية . ويذكر أن القرار الدولي صدر بأغلبية 11 دولة
وامتناع أربع دول عن التصويت من ضمنها الولايات المتحدة .
أجمع الباحثون والمحللون العرب على أن حريق المسجد الأقصى المتعمد مثل
محطة رئيسية من محطات الإرهاب “الإسرائيلي” وحلقة بارزة من حلقات المسلسل
“الإسرائيلي” المستمر للممارسات اللاأخلاقية واللاإنسانية بحق
الفلسطينيين وأملاكهم وأوقافهم وأماكن عباداتهم الإسلامية والمسيحية تحت
سمع وبصر العالم أجمع، بما في ذلك النظام الرسمي العربي الذي اختار لنفسه
أن يظل نزيل غرفة الإنعاش حتى إشعار آخر، بمشيئة أمريكية “إسرائيلية”
مشتركة لا بمشيئته طبعاً .
فمنذ وقوع الشطر الشرقي لمدينة القدس في قبضة الاحتلال وحتى اللحظة
الراهنة، لم يوقف “الإسرائيليون” مجازرهم الإجرامية بحق المصلين في
المسجد الأقصى الشريف ولم يكفوا عن محاولة اقتحامه والتهديد بهدمه ونسفه
بالمتفجرات وضربه بالصواريخ لإقامة هيكلهم المزعوم فوق أنقاضه .
وكانت مجزرة عام 1990 واحدة من المجازر البربرية التي ارتكبها هؤلاء
الأشرار بحق من اعتادوا على التواصل مع الله من خلال الصلوات في المسجد
الأقصى من منطلق إيماني وحرص أمين ومخلص على تأكيد هوية الأقصى العربية
والإسلامية . في تلك المجزرة الرهيبة هدر “الإسرائيليون” دم 22 فلسطينياً
غيلة وغدراً وهم في لحظات التضرع إلى رب العالمين . ولم يوقف
“الإسرائيليون” الحفريات حول المسجد المبارك وفي باطن أرضه وفي الأماكن
المحيطة به لحظة واحدة . فقد تواصلت الحفريات بشكل مسعور ومحموم بذريعة
البحث والتنقيب عن آثار هيكل سليمان وذرائع أخرى واهية . ولم تستثنٍ
الحفريات بيتاً عربياً أو مدرسة أو دار علم يملكها عربي . وبموازاة ذلك،
دأبوا منذ عام 1968 على حفر الأنفاق تحت الحرم القدسي الشريف . ففي ذلك
العام شرعوا بحفر نفق عميق وطويل أدخلوا إليه سفر التوراة وشيدوا في
داخله كنيساً يهودياً . وبلغت عملية حفر الأنفاق ذروتها في سبتمبر/أيلول ،
1996 عندما أقدموا على حفر نفق يمر أسفل السور العربي للمسجد ويربط بين
حائط البراق وطريق الآلام، الأمر الذي أثار في حينه حفيظة المقدسيين
وأشعل موجة من المواجهات المسلحة التي اتسعت رقعتها لتشمل جميع الأراضي
الفلسطينية المحتلة . وأسفرت تلك المواجهات عن سقوط 65 فلسطينياً و15
جندياً “إسرائيلياً” . وقد حصل كل ذلك في ظل تنامي الحديث عن السلام
الكاذب الذي تواتر على خلفية مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو .
يذكر أنه وفي ظل احتفال الفلسطينيين بتحرير قطاع غزة ودحر سلطة الاحتلال
“الإسرائيلية” الغاشمة في عام ،2005 تعالت أصوات “إسرائيلية” مُنكرة
مهددة بقصف المسجد الأقصى بالصواريخ من الجو والبر واقتحامه وتدميره .
ففي 6 يونيو/حزيران ،2005 حيث توافقت الذكرى ال 38 لاحتلال مدينة القدس،
فشلت مجموعات يهودية متطرفة رافقها حاخامات ونواب “إسرائيليون” يمينيون
وشخصيات “إسرائيلية” شعبية في اقتحام المسجد بشكل جماعي عبر باب الأسباط
بعد أن تصدى لها حراسه والمرابطون بداخله ومن وحوله . وليلة التاسع من
أغسطس/آب من ذات العام تكررت المحاولة عبر بابي حطة والسلسلة، إلا أنها
منيت بالفشل أيضاً . ومنذ الرابع عشر من ذات الشهر والعام الذي توافق مع
ذكرى ما يسمونه “خراب الهيكل الثاني”، استأنف المتطرفون اليهود محاولات
اقتحام المسجد جماعياً وفردياً . وفي واحدة من تلك المحاولات الإجرامية،
ألقت الشرطة “الإسرائيلية” القبض على متطرفين حاولا الدخول إليه عبر
بابين مختلفين . وفي الأعوام الخمسة الماضية تكررت المحاولات بشكل مكثف
ومتواصل في ذات المناسبات ومناسبات أخرى مختلفة وحتى من دون مناسبات
محددة . وترافقت تلك المحاولات مع تهديدات شرسة وحاقدة من أعضاء في
الكنيست “الإسرائيلي” وزعماء أحزاب طالبوا فيها بتدمير المسجد انتقاماً
لقتلاهم و”تحرير” أسراهم لدى المقاومتين الفلسطينية واللبنانية . ويُذكر
كذلك أنه فيما كانت انتفاضة الأقصى المجيدة للعام 2000 لم تزل بعد في أوج
توقدها في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، تمحورت المخاوف الفلسطينية
بصورة خاصة حول القدس والمخاطر المحدقة بها والمستقبل المظلم الذي يتهدد
عروبتها، وذلك لأن “الإسرائيليين” كانوا يعملون على إعادة رسم جغرافيتها
بالكيفية التي تلائم طموحاتهم التهويدية والاستيطانية التوسعية . ولطالما
تساءلنا ولم نزل نتساءل بإلحاح حول ما ستؤول إليه الأوضاع في المدينة
المقدسة، وما سيؤول إليه مصير المسجد الأقصى في ظل استهداف المتطرفين
اليهود الدائم له وللمنطقة المحيطة به .
أما وقد حدث ما حدث وقامت “إسرائيل” في مطلع العام الجاري بافتتاح ما
أسمته “كنيس الخراب” على بعد بضعة أمتار من المسجد الأقصى تهيئة لتحقيق
الحلم الصهيوني في إقامة الهيكل اليهودي المزعوم على أنقاض الأقصى، فإن
المخاوف على المسجد الأقصى بشكل خاص ومدينة القدس بشكل عام تصاعدت
وتضاعفت ملايين المرات، وبلغت مبلغاً من الخطورة لم تبلغه من قبل . ترى
إلى متى سنظل نتساءل حول ما ستؤول إليه الأوضاع في المسجد الأقصى والقدس
وكل الوطن الفلسطيني من البحر إلى النهر، خاصة بعد أن أصاب الوحدة
الوطنية الفلسطينية ما أصابها؟ وهل سيطول أمد التساؤل لستة عقود أخرى؟
واقدساه . . . واأقصاه . . . وامغيثاه .
المباركة في قبضة الاحتلال الصهيوني واليوم، ثلاثة وأربعون عاماً وبضعة
أسابيع، لم يتراجع خلالها المجرمون “الإسرائيليون” عن غيهم وسعيهم
المحموم والحثيث لتغيير معالم المدينة المقدسة والعبث بتراثها الحضاري
سعياً لتهويدها بالكامل وإلغاء هويتها العربية، في تحد واستفزاز سافرين
ومهينين لمشاعر أبنائها من الديانتين الإسلامية والمسيحية، وتجاهل وتحدٍ
متعمدين للعالمين العربي والإسلامي . وقد ظل هذا الأمر موضع استنكار دولي
دائم وصارخ عكسه مسلسل طويل الحلقات من القرارات الدولية المتلاحقة التي
صدرت عن منظمة الأمم المتحدة وفيض لم ينقطع من بيانات الشجب والإدانة
التي أطلقها قادة عالميون، إضافة إلى الرفض العربي والإسلامي وبالأخص
الفلسطيني الذي ما برح يعبر عن نفسه بشتى الصور والأساليب والوسائل التي
يجيزها القانون الدولي، بما في ذلك ممارسة المقاومة المسلحة والقيام
بالانتفاضات الشعبية التي تلاحقت في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام
1987 وحتى يومنا هذا . لكن ما كان يدعو للأسف والأسى دائماً هو أن
الاستنكار الدولي والرفض العربي والإسلامي ظلا يراوحان نطاق التداول
اللفظي ولم يتجاوزاه مرة واحدة ليصلا إلى مستوى التطبيق العملي .
ما يدعو للحزن والأسى أن المسجد الأقصى المبارك الذي يُعتبر أولى
القبلتين وثالث الحرمين بالنسبة للمسلمين في العالم، بقي من أولويات
أهداف التغيير عند “إسرائيل” بشكل دائم ومستمر، بزعم وجود جبل الهيكل
اليهودي تحت أرضه على مسمع وبصر العالم أجمع بما في ذلك النظام الرسمي
العربي . وقد اتخذت عمليات تغييره أشكالاً مختلفة منها العبث بمحيطه
وباطن أرضه والتحدي السافر لرواده وعمليات الاقتحام المتتالية له، التي
قام بها “الإسرائيليون” وما زالوا يقومون بها بشكل أحمق ومجنون حتى
اللحظة الراهنة . فمنذ وقوع القدس الشريف في قبضة الاحتلال “الإسرائيلي”
في اليوم الثاني لعدوان يونيو/حزيران ،1967 دأب “الإسرائيليون” على
اقتحام ساحة المسجد من حين لآخر وتدنيسها من خلال إقامة حفلات الغناء
والرقص والمجون والخلاعة بداخلها ومنع الفلسطينيين المسلمين من الوصول
إليها والصلاة فيها . لكن اقتحام الإرهابي الصهيوني الأرعن آرئيل شارون
مع نفر من أعوانه الأشرار في 28 سبتمبر/أيلول 2000 ساحة المسجد بتسهيلٍ
وحمايةٍ من حكومة حزب العمل التي كان يرأسها آنذاك الإرهابي الصهيوني
الآخر أيهود باراك، كان الأسوأ من نوعه والأكثر استفزازاً وتحدٍ لمشاعر
العرب والمسلمين بمن فيهم الفلسطينيون طبعاً . وقد شكل ذلك الاقتحام
الهمجي لساحة المسجد الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة الشعبية الثانية
التي حملت اسم المسجد المبارك .
بدأت “إسرائيل” حملاتها التغييرية والتهويدية المسعورة للمسجد الأقصى مع
احتلال الشطر الشرقي للمدينة المقدسة إثر عدوان 5 يونيو/حزيران ،1967
واستمرت في ظل “اتفاقية أوسلو” اللعينة وما أعقبها من مفاوضات وتفاهمات
عقيمة بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين” تارة برعاية رباعية منحازة وطوراً
برعاية أمريكية أكثر انحيازاً، وتصاعدت وتيرتها في ظل حرب الإبادة
الجماعية المستمرة التي دأب جنودها على شنها ضد الفلسطينيين الآمنين
بطريقة عدوانية متواصلة . وحصلت تلك الحملات قبل البدء ببناء جدار الفصل
العنصري، واستمرت في ذروة بنائه وبعد الانتهاء منه، ولا يبدو أن لها
نهاية أو مستقراً طالما أن المطامع “الإسرائيلية” التوسعية قائمة ومستمرة
في ظل انحياز أمريكي وتواطؤ أوروبي وخضوع رسمي عربي كامل ومهين للإملاءات
الأمريكية “الإسرائيلية” المشتركة .
وقد اكتست هذه الحملات العدوانية وجوهاً وأقنعة عديدة ومتنوعة، وتم
التعبير عنها بوسائل وسبل شريرة وشيطانية مختلفة، ومن خلال العديد من
الحلقات والمحطات التي تركت آثارها المؤلمة والموجعة على العرب
والمسلمين، وبالخصوص على الفلسطينيين وبأخص الخصوص على المقدسيين، بحيث
يصعب معها التكهن باحتمال محوها من ذاكرتهم في المستقبل . ولربما أن
أبرزها تمثل بمحاولة الإجهاز على المسجد الأقصى المبارك عن طريق الحرق في
21 أغسطس/آب 1969 والتي تصادف هذه الأيام ذكراها الحادية والأربعين . تلك
المحاولة التي وقف وراءها المتطرفون “الإسرائيليون” الذين ما أبطنوا ولا
أظهروا غير الحقد والكراهية للعرب والمسلمين، جرت بإيعاز وتشجيع من
الدوائر السياسية والأمنية “الإسرائيلية” الرسمية . ففي تلك المحاولة
الإجرامية، أحرق المتطرفون “الإسرائيليون” المسجد بطريقة لا يمكن لسلطات
الاحتلال أن تكون بمنأى أو معزل عنها . فقد قامت هذه السلطات بقطع المياه
عن منطقة الحرم فور ظهور الحريق، وحاولت منع المقدسيين وسيارات الإطفاء
التي هرعت من البلديات العربية من الوصول إلى المنطقة والقيام بعملية
الإطفاء . وكاد الحريق أن يلتهم قبة المسجد المبارك لولا استماتة هؤلاء
الأبرار في عملية الإطفاء، إذ اندفعوا اندفاعة الأبطال عبر النطاق الذي
ضربته قوات الاحتلال “الإسرائيلية” حتى تمكنوا من إكمال مهمتهم، لكن بعد
أن أتى على منبر المسجد وسقوف ثلاثة من أروقته وجزءٍ كبير من سطحه
الجنوبي . وفي محاولة دنيئة ووقحة للتعمية على جريمتها، ادعت “إسرائيل”
يومها أن “تماساً كهربائياً تسبب في الحريق”، إلا أن تقارير المهندسين
الفلسطينيين دحضت ذلك الادعاء، وأكدت أنه تم بفعل أيد مجرمة أقدمت على
تلك الفعلة الشنيعة عن سابق إصرار وتصميم وترصد، الأمر الذي أجبر قادة
العدو على التراجع عن ادعائهم وتحويل الشبهة إلى شاب أسترالي يدعى دينيس
مايكل وليام موهان . واعتقلت “إسرائيل” ذلك الشاب، وكان يهودياً
أسترالياً، وتظاهرت بأنها ستقدمه للمحاكمة في عملية احتيال التفافية
لامتصاص غضبة الفلسطينيين وإدانة العرب والمسلمين والالتفاف على المنظمة
الدولية، إلا أنها بدل أن تفعل ذلك أطلقت سراحه متذرعة بأنه كان
“معتوهاً” . وهكذا قيدت “إسرائيل” جريمتها الإرهابية النكراء تلك ضد
معتوه، كعادتها بعد كل جريمة إرهابية يرتكبها جنودها ومواطنوها بحق
الفلسطينيين وأملاكهم وأوقافهم الإسلامية والمسيحية .
ارتكاب “إسرائيل” جريمة حرق المسجد الأقصى والتعامل معها بطريقة
استفزازية ومهينة للعرب والمسلمين أثارا في حينه هياجاً كبيراً في
الأوساط العربية والإسلامية وخاصة الفلسطينية طبعاً لما يمثله المسجد
كمكان ديني مقدس وواحد من أبرز معالم الحضارة الإنسانية، الأمر الذي فرض
على مجلس الأمن الدولي إصدار قراره الشهير الذي حمل الرقم 271 . في ذلك
القرار دان المجلس “إسرائيل” لتدنيسها المسجد، ودعاها إلى إلغاء جميع
التدابير التي من شأنها المساس بوضعية المدينة المقدسة . وعبر القرار عن
حزن المجلس للضرر الفادح الذي ألحقه الحريق بالمسجد في ظل الاحتلال
العسكري “الإسرائيلي” الغاشم . وبعد أن استذكر القرار جميع القرارات
الدولية السابقة التي أكدت بطلان إجراءات “إسرائيل” التي استهدفت التغيير
في القدس المحتلة، دعاها من جديد إلى التقيد بنصوص اتفاقيات جنيف
والقانون الدولي الذي ينظم الاحتلال العسكري . كما دعاها إلى الامتناع عن
إعاقة عمل المجلس الإسلامي في المدينة، المعني بصيانة وإصلاح وترميم
الأماكن المقدسة الإسلامية . ويذكر أن القرار الدولي صدر بأغلبية 11 دولة
وامتناع أربع دول عن التصويت من ضمنها الولايات المتحدة .
أجمع الباحثون والمحللون العرب على أن حريق المسجد الأقصى المتعمد مثل
محطة رئيسية من محطات الإرهاب “الإسرائيلي” وحلقة بارزة من حلقات المسلسل
“الإسرائيلي” المستمر للممارسات اللاأخلاقية واللاإنسانية بحق
الفلسطينيين وأملاكهم وأوقافهم وأماكن عباداتهم الإسلامية والمسيحية تحت
سمع وبصر العالم أجمع، بما في ذلك النظام الرسمي العربي الذي اختار لنفسه
أن يظل نزيل غرفة الإنعاش حتى إشعار آخر، بمشيئة أمريكية “إسرائيلية”
مشتركة لا بمشيئته طبعاً .
فمنذ وقوع الشطر الشرقي لمدينة القدس في قبضة الاحتلال وحتى اللحظة
الراهنة، لم يوقف “الإسرائيليون” مجازرهم الإجرامية بحق المصلين في
المسجد الأقصى الشريف ولم يكفوا عن محاولة اقتحامه والتهديد بهدمه ونسفه
بالمتفجرات وضربه بالصواريخ لإقامة هيكلهم المزعوم فوق أنقاضه .
وكانت مجزرة عام 1990 واحدة من المجازر البربرية التي ارتكبها هؤلاء
الأشرار بحق من اعتادوا على التواصل مع الله من خلال الصلوات في المسجد
الأقصى من منطلق إيماني وحرص أمين ومخلص على تأكيد هوية الأقصى العربية
والإسلامية . في تلك المجزرة الرهيبة هدر “الإسرائيليون” دم 22 فلسطينياً
غيلة وغدراً وهم في لحظات التضرع إلى رب العالمين . ولم يوقف
“الإسرائيليون” الحفريات حول المسجد المبارك وفي باطن أرضه وفي الأماكن
المحيطة به لحظة واحدة . فقد تواصلت الحفريات بشكل مسعور ومحموم بذريعة
البحث والتنقيب عن آثار هيكل سليمان وذرائع أخرى واهية . ولم تستثنٍ
الحفريات بيتاً عربياً أو مدرسة أو دار علم يملكها عربي . وبموازاة ذلك،
دأبوا منذ عام 1968 على حفر الأنفاق تحت الحرم القدسي الشريف . ففي ذلك
العام شرعوا بحفر نفق عميق وطويل أدخلوا إليه سفر التوراة وشيدوا في
داخله كنيساً يهودياً . وبلغت عملية حفر الأنفاق ذروتها في سبتمبر/أيلول ،
1996 عندما أقدموا على حفر نفق يمر أسفل السور العربي للمسجد ويربط بين
حائط البراق وطريق الآلام، الأمر الذي أثار في حينه حفيظة المقدسيين
وأشعل موجة من المواجهات المسلحة التي اتسعت رقعتها لتشمل جميع الأراضي
الفلسطينية المحتلة . وأسفرت تلك المواجهات عن سقوط 65 فلسطينياً و15
جندياً “إسرائيلياً” . وقد حصل كل ذلك في ظل تنامي الحديث عن السلام
الكاذب الذي تواتر على خلفية مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو .
يذكر أنه وفي ظل احتفال الفلسطينيين بتحرير قطاع غزة ودحر سلطة الاحتلال
“الإسرائيلية” الغاشمة في عام ،2005 تعالت أصوات “إسرائيلية” مُنكرة
مهددة بقصف المسجد الأقصى بالصواريخ من الجو والبر واقتحامه وتدميره .
ففي 6 يونيو/حزيران ،2005 حيث توافقت الذكرى ال 38 لاحتلال مدينة القدس،
فشلت مجموعات يهودية متطرفة رافقها حاخامات ونواب “إسرائيليون” يمينيون
وشخصيات “إسرائيلية” شعبية في اقتحام المسجد بشكل جماعي عبر باب الأسباط
بعد أن تصدى لها حراسه والمرابطون بداخله ومن وحوله . وليلة التاسع من
أغسطس/آب من ذات العام تكررت المحاولة عبر بابي حطة والسلسلة، إلا أنها
منيت بالفشل أيضاً . ومنذ الرابع عشر من ذات الشهر والعام الذي توافق مع
ذكرى ما يسمونه “خراب الهيكل الثاني”، استأنف المتطرفون اليهود محاولات
اقتحام المسجد جماعياً وفردياً . وفي واحدة من تلك المحاولات الإجرامية،
ألقت الشرطة “الإسرائيلية” القبض على متطرفين حاولا الدخول إليه عبر
بابين مختلفين . وفي الأعوام الخمسة الماضية تكررت المحاولات بشكل مكثف
ومتواصل في ذات المناسبات ومناسبات أخرى مختلفة وحتى من دون مناسبات
محددة . وترافقت تلك المحاولات مع تهديدات شرسة وحاقدة من أعضاء في
الكنيست “الإسرائيلي” وزعماء أحزاب طالبوا فيها بتدمير المسجد انتقاماً
لقتلاهم و”تحرير” أسراهم لدى المقاومتين الفلسطينية واللبنانية . ويُذكر
كذلك أنه فيما كانت انتفاضة الأقصى المجيدة للعام 2000 لم تزل بعد في أوج
توقدها في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، تمحورت المخاوف الفلسطينية
بصورة خاصة حول القدس والمخاطر المحدقة بها والمستقبل المظلم الذي يتهدد
عروبتها، وذلك لأن “الإسرائيليين” كانوا يعملون على إعادة رسم جغرافيتها
بالكيفية التي تلائم طموحاتهم التهويدية والاستيطانية التوسعية . ولطالما
تساءلنا ولم نزل نتساءل بإلحاح حول ما ستؤول إليه الأوضاع في المدينة
المقدسة، وما سيؤول إليه مصير المسجد الأقصى في ظل استهداف المتطرفين
اليهود الدائم له وللمنطقة المحيطة به .
أما وقد حدث ما حدث وقامت “إسرائيل” في مطلع العام الجاري بافتتاح ما
أسمته “كنيس الخراب” على بعد بضعة أمتار من المسجد الأقصى تهيئة لتحقيق
الحلم الصهيوني في إقامة الهيكل اليهودي المزعوم على أنقاض الأقصى، فإن
المخاوف على المسجد الأقصى بشكل خاص ومدينة القدس بشكل عام تصاعدت
وتضاعفت ملايين المرات، وبلغت مبلغاً من الخطورة لم تبلغه من قبل . ترى
إلى متى سنظل نتساءل حول ما ستؤول إليه الأوضاع في المسجد الأقصى والقدس
وكل الوطن الفلسطيني من البحر إلى النهر، خاصة بعد أن أصاب الوحدة
الوطنية الفلسطينية ما أصابها؟ وهل سيطول أمد التساؤل لستة عقود أخرى؟
واقدساه . . . واأقصاه . . . وامغيثاه .
محمود كعوش
* كاتب وباحث فلسطيني مقيم بالدانمارك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق